فصل: تفسير سورة الرحمن عز وجل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (16- 19):

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)}
وقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ}: توقيف لكفار قريش، والنذر: هنا جمع نذير، وهو المصدر، والمعنى: كيف كان عاقبةُ إنذاري لمن لم يَحْفَلْ به كأنتم أيُّها القوم؟ و{يَسَّرْنَا القرءان} أي: سَهَّلْناه وقَرَّبْناه، والذِّكْرُ: الحفظ عن ظهر قلب؛ قال * ع *: يُسِّرَ بما فيه من حُسْنِ النظم وشَرَفِ المعاني، فله حلاوةٌ في القلوب، وامتزاجٌ بالعقول السليمة.
وقوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}: استدعاءٌ وحَضٌّ على ذكرِهِ وحفظِهِ؛ لتكونَ زواجرُهُ وعلومُهُ حاضرةً في النفس، فللَّه دُرُّ مَنْ قبِل وهدي.
* ت *: وقال الثعلبيُّ: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: من مُتَّعظ.
وقوله: {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} الآية: ورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية: {يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ}: يوم الأربعاء، ومستمر معناه: متتابع.

.تفسير الآيات (20- 41):

{تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)}
وقوله: {تَنزِعُ الناس} معناه: تقلعهم من مواضعهم قَلْعاً فتطرحهم، ورُوِيَ عن مجاهد أَنَّ الريحَ كانت تُلْقِي الرجلَ على رأسه؛ فيتفتت رأسُهُ وعُنُقُهُ، وما يلي ذلك من بدنه، قال *ع *: فلذلك حسن التشبيه بأعجاز النخل؛ وذلك أَنَّ المنقلع هو الذي ينقلع من قعره، وقال قوم: إنَّما شَبَّههم بأعجاز النخل؛ لأَنَّهُمْ كانوا يحتفرون حفراً ليمتنعوا فيها من الريح، فكأَنَّه شَبَّهَ تلك الحُفَرَ بعد النزع بحفر أعجاز النخل، والنَّخْلُ: تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، وفائدة تكرار قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} التخويفُ وَهَزُّ النفوسِ، وهذا موجود في تَكْرَارِ الكلام؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» ونحوه، وقول ثمود لصالح: {أَبَشَراً مِّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ}: هو حسد منهم، واستبعادٌ منهم أنْ يكونَ نوعَ البشر يفضل هذا التفضيلَ، ولم يعلموا أَنَّ الفضلَ بيدِ اللَّه يؤتيه مَنْ يشاء، ويفيض نورَ الهدى على مَنْ رَضيَهُ، وقولهم: {إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال} أي: في ذهاب وانتلاف عن الصواب، {وَسُعُرٍ} معناه: في احتراق أنفس واستعارها حنقاً، وقيل: في جنون؛ يقال: ناقة مسعورة إذا كانت خفيفةَ الرأس هائمةً على وجهها، والأَشَرُ: البَطَرُ، وقرأ الجمهور: {سَيَعْلَمُونَ} بالياء، وقرأ حمزة وحفص: {سَتَعْلَمُونَ} بالتاء من فوق؛ على معنى: قل لهم يا صالح.
ثم أمر اللَّه صالحاً بارتقاب الفَرَجِ والصبر.
* ت *: وقال الثعلبيُّ: {فارتقبهم} أي: انتظرهم؛ ما يصنعون، {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} وبين الناقة، لها شِرْبٌ ولهم شِرْبٌ يوم معلوم، و{مُّحْتَضَرٌ}: معناه: محضور مشهود متواسى فيه، وقال مجاهد: {كُلُّ شِرْبٍ} أي: من الماء يوماً ومن لبن الناقة يوماً محتضر لهم، فكأَنَّه أنبأهم بنعمة اللَّه سبحانه عليهم في ذلك، و{صاحبهم}: هو قدار بن سالف، و{تعاطى} مطاوع عاطى فكأَنَّ هذه الفعلة تدافعها الناس، وأعطاها بعضُهم بعضاً فتعاطاها هو، وتناول العَقْرَ بيده؛ قاله ابن عباس، وقد تقدم قَصَصُ القوم، والهشيم: ما تفتَّت وتَهَشَّمَ من الأشياء، و{المحتظر}: معناه: الذي يصنع حظيرة، قاله ابن زيد وغيره، وهي مأخوذة من الحَظَرِ وهو المنع، والعرب وأهلُ البوادي يصنعونها للمواشي وللسُّكْنَى أيضاً من الأَغصان والشجر المُورِقِ، والقصب، ونحوه، وهذا كُلُّه هشيمٌ يتفتت، إمَّا في أَوَّل الصنعة، وإمَّا عند بِلى الحظيرة وتساقُطِ أجزائها، وقد تقدم قَصَصُ قوم لوط، والحاصب: مأخوذ من الحصباء.
وقوله: {فَتَمَارَوْاْ} معناه: تشككوا، وأهدى بعضُهم الشَّكَّ إلى بعض بتعاطيهم الشُّبَهِ والضلالِ، و{النذر}: جمع نذير، وهو المصدر، ويحتمل أَنْ يُرَادَ بالنذر هنا وفي قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} جمع نذير، الذي هو اسم فاعل.
وقوله سبحانه: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} قال قتادة: هي حقيقةً؛ جَرَّ جبريل شيئاً من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم، قال أبو عُبَيْدَةَ: مطموسة بجلدة كالوجه، وقال ابن عباس والضَّحَّاك: هذه استعارة؛ وإنَّما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً فجعل ذلك كالطمس.
وقوله: {بُكْرَةً} قيل: عند طلوع الفجر.
وقوله: {فَذُوقُواْ}: يحتمل أنْ يكون من قول اللَّه تعالى لهم، ويحتمل أَنْ يكونَ من قول الملائكة، وَنُذُرِي: جمع المصدر، أي: وعاقبة إنذاري، و{مُّسْتَقِرٌّ} أي: دائم استقر فيهم حَتَّى يُفْضِيَ بهم إلى عذاب الآخرة، و{آلَ فِرْعَوْنَ}: قومه وأتباعه.

.تفسير الآيات (42- 48):

{كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)}
وقوله: {كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلِّهَا} يحتمل أنْ يريد آل فرعونَ، ويحتمل أَنْ يكون قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النذر} [القمر: 41] كلاماً تامًّا، ثم يكون قوله: {كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلِّهَا} يعود على جميع من ذُكِرَ من الأمم.
وقوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} خطاب لقريش على جهة التوبيخ.
وقوله: {أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ} أي: من العذاب {فِى الزبر} أي: في كتب اللَّه المُنَزَّلَةِ؛ قاله ابن زيد وغيره.
ثم قال تعالى لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ}: واثقون بجماعتنا، منتصرون بقوَّتِنا على جهة الإعجاب؛ سَيُهْزَمُونَ، فلا ينفع جمعُهم، وهذه عِدَةٌ من اللَّه تعالى لرسوله أَنَّ جَمْعَ قريشٍ سَيُهْزَمُ، فكان كما وعد سبحانه؛ قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: كنت أقول في نفسي: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟! فَلَمَّا كان يومُ بدرٍ رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} والجمهور على أَنَّ الآية نزلت بِمَكَّةَ، وقول مَنْ زعم أَنَّها نزلت يومَ بدر ضعيف، والصواب أَنَّ الوعد نُجِّزَ يوم بدر، قال أبو حيان: {وَيُوَلُّونَ}: الجمهور بياء الغيبة، وعن أبي عمرو بتاء الخطاب، والدُّبُرُ: هنا اسم جنس، وحسن إفرادَهُ؛ كونُهُ فاصلةً، وقد جاء مجموعاً في آية أُخرى، وهو الأصل، انتهى.
ثم أضرب سبحانه تهميماً بأمر الساعة التي هي أَشَدُّ عليهم من كُلِّ هزيمة وقَتْلٍ، فقال: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} و{أدهى}: أفعل من الداهية، وهي الرَّزِيَّةُ العُظْمَى تنزل بالمرء، {وَأَمَرُّ} من المرارة.
* ت *: وقال الثعلبيُّ: الداهية الأَمَرُّ: الشديد الذي لا يُهْتَدَى للخلاص منه، انتهى.
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أَنَّهم في الدنيا في حيرة وانتلاف، وفقد هدى، وفي الآخرة في احتراق وتسعُّر، وقال ابن عباس: المعنى: في خسران وجُنُونٍ، والسُّعُرُ: الجنون، وأكثر المفسرين على أَنَّ المجرمين هنا يُرَادُ بهم الكُفَّارُ، والسَّحْبُ: الجَرُّ.

.تفسير الآيات (49- 55):

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}
وقوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ} قرأ جمهور الناس: {كُلَّ} بالنصب، وقالوا: المعنى: إنَّا خلقنا كُلَّ شيء بقدر سابق، وليست خلقنا في موضع الصفة لشيء، وهذا مذهب أهل السُّنَّةِ وهذا المعنى يقتضى أَنَّ كُلَّ شيء مخلوق إلاَّ ما قام عليه الدليل أَنَّه ليس بمخلوق؛ كالقرآن والصفات.
* ت *: قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كُلَّهم بقدر، وَخَلَقَ الخيرَ والشَّرَّ، فخيرُ الخير: السعادةُ، وَشَرُّ الشَّرِّ: الشقاوة.
وقوله سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} قال * ع *: أي: إلاَّ قولة واحدة، وهي كن.
* ت *: قوله: إلاَّ قوله فيه قَلَقٌ ما، وكأَنَّه فَهِمَ أَنَّ معنى الآية راجع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وعبارة الثعلبيِّ: أي: وما أمر الساعة إلاَّ واحدة، أي: إلاَّ رجفة واحدة، قال أبو عبيد هي نعت للمعنى دون اللفظ، مجازه: وما أمرنا إلاَّ مرة واحدة كن فيكون {كَلَمْحٍ بالبصر}، أي: كخطف بالبصر، فقيل له: إنَّه يعني الساعةَ، فقال: الساعة وجميع ما يريد، انتهى، وكلام أبي عبيد عندي حَسَنٌ.
والأشياع: الفِرَقُ المتشابهة في مذهب، أو دين، ونحوهِ، الأَوَّلُ شيعةٌ للآخر، والآخرُ شيعة للأَوَّلِ، وكُلُّ شيء فعلته الأُمَم المُهْلَكَةُ في الزبر، أي: مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب؛ قاله ابن عباس وغيره، و{مُّسْتَطَرٌ} أي: مُسَطَّر، وقرأ الجمهور: و{وَنَهَرٍ} بفتح النون والهاء؛ على أَنَّه اسم الجنس يريد به الأنهار، أو على أَنَّه بمعنى: وَسَعَةٍ في الأرزاق والمنازل، قال أبو حيان: وقرأ الأعمش {وَنُهُرٍ} بضم النون والهاء جمع نَهْرٍ؛ كرَهُنٍ وَرَهْنٍ انتهى.
وقوله تعالى: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} يحتمل أنْ يريدَ به الصّدقَ الذي هو ضِدُّ الكَذِبِ، أي: المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أنْ يكون من قولك: عود صدق، أي: جيد، وَرَجُلٌ صِدْقٌ، أي: خير، والمليك المقتدر: اللَّه تعالى.
* ت *: وقال الثعلبيُّ: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي: في مجلس حَقٍّ لا لَغْوَ فيه ولا تأثيمَ، وهو الجنة عند مليك مقتدر، و{عِندَ}: إشارة إلى القربة والرُّتْبَةِ، انتهى.
* ص *: قال أبو البقاء: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ}: بدل من قوله: {فِي جنات} انتهى، قال المُحَاسِبِيُّ: وإذا أخذ أهلُ الجنة مجالسَهم، واطمأنوا في مقعد الصدق الذي وعده اللَّه لهم، فهم في القُرْبِ من مولاهم سبحانه على قدر منازلهم عنده، انتهى من كتاب التَّوَهُّمِ ثم قال المُحَاسِبيُّ بإثْرِ هذا الكلام: فلو رأيتهم، وقد سمعوا كلامَ ربهم، وقد داخل قلوبَهم السرورُ، وقد بلغوا غايةَ الكرامة ومنتهى الرضا والغِبْطَةِ، فما ظَنُّك بنظرهم إلى العزيز العظيم الجليل الذي لا تقع عليه الأوهام؛ ولا تحيطُ به الأفهام، ولا تحده الفِطَنُ، ولا تكيِّفه الفِكَرُ، الأَزَلِيُّ القديم، الذي حارت العقول عن إدراكه، وكَلَّتِ الألسن عن كُنْهِ صفاته؟!انتهى.

.تفسير سورة الرحمن عز وجل:

وهي مكية في قول الجمهور.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)}
قوله عز وجل: {الرحمن * عَلَّمَ القرءان} الرحمن: بناء مبالغة من الرحمة، وقوله: {عَلَّمَ القرءان} تعديد نعمةٍ، أي: هو مَنَّ به، وعَلَّمَهُ الناسَ، وخَصَّ حُفَّاظَهُ وَفَهَمَتَهُ بالفضل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، ومن الدليل على أَنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، أَنَّ اللَّه تعالى ذكر القرآن في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضِعٌ صَرَّحَ فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسانَ على الثُّلُثِ من ذلك في ثمانيةَ عَشَرَ موضعاً كُلُّها نَصَّتْ على خلقه، وقد اقترن ذكرُهُمَا في هذه السورة على هذا النحو، والإنسان هنا اسم جنس؛ قاله الزَّهْرَاوِيُّ وغيره، قال الفخر: {الرحمن}: مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي {عَلَّمَ القرءان}، انتهى، و{البيان}: النُّطْقُ والفهم والإبانة عن ذلك بقولٍ؛ قاله الجمهور، وبذلك فُضِّلَ الإنسان من سائر الحيوان، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي عَلّمه الإنسان، فمن ذلك البيان: كونُ {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ}: وهذا ابتداء تعديد نِعَمٍ، قال قتادة: {بِحُسْبَانٍ}: مصدر كالحساب، وقال أبو عبيدةَ معمر بن المثنى والضَّحَّاك: هو جمع حساب، والمعنى: أَنَّ هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروجَ وغيرِ ذلك حساباتٌ شَتَّى، وهذا مذهب ابن عباس وغيرِهِ، وقال قتادة: الحسبان: الفلك المستدير، شَبَّهَهُ بحُسْبَان الرَّحَى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة.

.تفسير الآيات (6- 13):

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}
وقوله سبحانه: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} قال ابن عباس وغيره: النجم: النباتُ الذي لا ساقَ له. قال * ع *: وسُمِّيَ نَجْماً؛ لأَنَّه نَجَمَ، أي: ظَهَر، وهو مناسب للشجر نسبةً بَيِّنَةً، وقال مجاهد وغيره: النجم: اسم الجنس من نجومِ السماءِ: قال * ع *: والنسبة التي لها من السَّمَاءِ هي التي للشَّجَرِ من الأرض؛ لأَنَّهُمَا في ظاهرهما، وسُمِّيَ الشَّجَرَ؛ من اشتجار غصونه، وهو تداخُلُها، قال مجاهد: وسجودُهُمَا عبارةٌ عن التذلُّلِ والخضوعِ.
وقوله سبحانه: {وَوَضَعَ الميزان}: يريد به العدل؛ قاله أكثرُ الناسَ.
وقوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ في الميزان} وقوله: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط}، وقوله: {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} يريد به الميزانَ المعروفَ وأَلاَّ هو بتقدير لئلاَّ، أو مفعول من أجله، وفي مصحف ابن مسعود: {لاَ تَطْغَوا في المِيزَانِ} وقرأ بلال بن أبي بُردَةَ: {تَخْسِرُوا} بفتح التاء وكسر السين؛ من خَسَرَ، ويقال: خَسَرَ وَأَخْسَرَ بمعنى نَقَصَ، وأفسد؛ كَجَبَرَ وأَجْبَرَ.
والأنام: قال الحسن بن أبي الحَسَنِ: هم الثقلان، الإنْسُ والْجِنُّ، وقال ابن عباس، وقتادة وابن زيد والشَّعْبِيُّ: هم الحيوانُ كلُّه.
{والنخل ذَاتُ الأكمام} وذلك أَنَّ طَلْعَهَا في كُمٍّ وفروعَها أيضاً في أكمامٍ مِنْ ليفِهَا، والكُمُّ من النَّبَاتِ: كلُّ ما التف على شَيْءٍ وَسَتَرَهُ: ومنه كمائم الزَّهْرِ، وبه شُبِّهَ كُمُّ الثوب.
{والحب ذُو العصف}: هو الْبُرُّ والشَّعِيرُ وما جرى مجراه، قال ابن عباس: العَصْفُ: التِّبْنُ، واخْتُلِفَ في الرَّيْحَان، فقال ابن عَبَّاس وغيره: هو الرِّزْق، وقال الحسن: هو رَيْحَانُكُمْ هذا، وقال ابن زيد وقتادة: الريحانُ هو كُلُّ مشمومٍ طَيِّبٍ، قال * ع *: وفي هذا النوع نعمة عظيمة، ففيه الأزهار، والمِنْدَلُ والعقاقير، وغير ذلك، وقرأ الجمهور: {وَالرَّيْحَانُ} بالرفع؛ عطفاً على {فاكهة} وقرأ حمزة والكسائيُّ: {وَالرَّيْحَانِ} بالخفض؛ عطفاً على {العَصْف}، ف {الريحان} على هذه القراءة: الرزق، ولا يدخل فيه المشمومُ إلاَّ بتكَلُّفٍ، وريحان أصله رَوْحَان؛ فهو من ذوات الواو؛ والآلاء: النِّعَمُ، والضمير في قوله: {رَبِّكُمَا} للجن والإنس اللَّذَيْن تضمَّنهما لفظُ الأَنامِ، وأيضاً ساغ تقديمُ ضميرهما عليهما؛ لذكر الإنسان والجانِّ عَقِبَ ذلك، وفيه اتساع، وقال منذر بن سَعِيدٍ: خُوطِبَ مَنْ يعقِلُ؛ لأَنَّ المخاطبة بالقرآن كُلِّه هي للإنس والجن، وعن جابر قال: قرأ علينا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ الرحمن، حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَالي أَرَاكُمْ سُكُوتاً؟! لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ رَدًّا مِنْكُمْ؛ مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيةَ مِنْ مَرَّةٍ: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلاَّ قَالُوا: لاَ بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبّنَا نُكَذِّبُ».